سورة الزخرف - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزخرف)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {ولما ضُرب ابنُ مريمَ مثلا}، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ على قريش: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] الآية، فغضبوا، فقال ابن الزِّبَعْرى: يا محمد! أخاصة لنا ولآلهتنا، أم لجميع الأمم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم»، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى نبي، يُثنى عليه وعلى أمّه خيراً، وقد علمت أنَّ النصارى يعبدونهما؟ وعزيز يُعبد، والملائكة يُعبدون، فإن كان هؤلاء في النار، فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، ففرحوا، وضحكوا، وسكت النبيُّ انتظاراً للوحي.
وفي رواية: فقال لهم صلى الله عليه وسلم: «إنما عبدوا الشياطين التي أمرتهم بذلك» وقال لابن الزبعرى: «ما أجهلك بلغة قومك، أَمَا فهمت أن» ما «لِما لا يعقل، فهي خاصة بالأصنام»، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الْحُسْنَى...} [الأنبياء: 101] الآية. ونزلت هذه الآية.
والمعنى: ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى {ابن مريم مثلاً} لآلهتهم، وجادل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة النصارى إياه {إِذا قومُك} قريش {منه} أي: من هذا المثل {يَصِدُّون} ترتفع لهم جلبة وضجيج، فرحاً وضحكاً، فهو من: الصديد، وهو الجلبة ورفع الصوت، ويؤيده: تعديته بمَن، ولو كان من الصدود لقال: {عنه}، وقرئ بالكسر والضم، وقيل: هما لغتان، كيعكِفُون ويعكُفُون ويعرِشون ويعرُشُون، وقيل: بالكسر معناه: الصديد، أي: الضجيج والضحك، وبالضم معناه: الإعراض، فيكون من الصدود، أي: فهم من أجل هذا المثل يعرضون عن الحق، أي: يثبتون على ما كانوا عليه من الإعراض، أو يزدادون.
{وقالوا آلهتُنا خيرٌ أَمْ هو} يعني أن آلهتنا عندك ليست بخير من عيسى، فإذا كان عيسى من حصب جهنم كان أمر آلهتنا هيناً. أو: فإذا كان عيسى في النار، فلا بأس بكوننا مع آلهتنا فيها. قال تعالى: {ما ضربوه لك إِلا جَدَلا} أي: ما ضربوا لك ذلك المثل إلا لأجل الجدال والخصام، لا لطلب الحق حتى يذعونا له عند ظهوره، {بل هم قوم خَصِمُونَ} أي: لُدّاً، شِدَاد الخصومة، مجبولون على اللجاج، وذلك أن الآية إنما قصدت الأصنام، بدليل التعبير ب ما، إلا أن ابن الزبعرى حدا عنه لمّا رأى كلام الله تعالى محتملاً لفظُه للعموم، مع علمه بأن المراد به أصنامهم، وجد للحيلة مساغاً، فصرف اللفظ إلى الشمول والإحاطة بكل معبود غير الله، على طريق اللجاج والجدال والمكابرة، وتوقَّح في ذلك، فصمت عنه صلى الله عليه وسلم حتى أجاب عنه ربه.
وقيل: لما سمعوا قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ...} [آل عمران: 59] الآية، قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنهم عبدوا آدمياً، ونحن نعبد الملائكة، فنزلت.
فقولهم: آلهتنا خير، هو حينئذ تفضيل لآلهتهم على عيسى عليه السلام؛ لأن المراد بهم الملائكة. ومعنى: {ما ضربوه...} الخ: ما قالوا هذا القول إلا للجدال. وقيل: لما نزل: {إن مثل عيسى عند الله..} الآية، قالوا: ما يريد محمد إلا أن نعبده كما عبد النصارى المسيح. ومعنى {يصدون}: يضجون ويسخرون، والضمير على هذا في {أَم} هو لمحمد صلى الله عليه وسلم، وغرضهم ومرادهم بالموازنة بينه وبين آلهتهم الاستهزاء به صلى الله عليه وسلم ويجوز أن يكون مرادهم التنصُّل عما أنكر عليهم من قولهم: الملائكة بنات الله، ومن عبادتهم لهم، كأنهم قالوا: ما قلنا بدعاً من القول، ولا فعلنا منكراً من الفعل، فإنَّ النصارى جعلوا المسيح ابن الله، وعبدوه، فنحن أرشد منهم قولاً وفعلاً، حيث نسبنا له الملائكة، وهم نسبوا إليه الأناسي. فقوله تعالى: {إن هو إِلا عبدٌ أنعمنا عليه} أي: ما عيسى إلا عبد، كسائر العبيد، أنعمنا عليه بالنبوة، {وجعلناه مثلاً لبني إِسرائيل} أي: أمراً عجيباً، حقيقاً بأن يسير ذكره كالأمثال السائرة، ففيه تنبيه على بطلان رفعه عن رتبة العبودية، أي: قصارى أمره أنه ممن أنعمنا عليه بالنبوة، وخصصناه ببعض الخواص البديعة، بأن خلقناه على وجهٍ بديع، وقد خلقنا آدم بوجه أبدع منه، فأين هو من رتبة الربوبية حتى يتوهم أنه رضي بعبادته مع الله؟ ومَن عبده فإنما عبد الشيطان.
ثم قال تعالى: {ولو نشاء لجعلنا منكم ملائكةً في الأرض} بدلاً منكم، كذا قال الزجاج، ف مِن بمعنى البدل {يَخْلُفُون} أي: يخلفونكم في الأرض، أي: لو نشاء لذهبنا بكم وجعلنا بدلاً منكم ملائكة يخلفونكم في الأرض، فيكونون أطوع منك لله تعالى، وقيل: {ولو نشاء} لقدرتنا على عجائب الأمور {لجعلنا منكم} بطريق التوالد، وأنتم رجال، من شأنكم الولادة- {ملائكة} كما خلقناهم بطريق الإبداع {في الأرض} مستقرين فيهم، كما جعلناهم مستقرين في السماء، يخلفونكم مثل أولادكم، ويباشرون الأفاعيل المنوطة بمباشرتكم، فكيف يستحقون المعبودية مع أنهم أجسام، متولدون عن أجسام، والمستحق للعبادة يتعالى عن ذلك؟!
{وإِنه} أي: عيسى عليه السلام {لَعِلْمٌ للساعة} أي: مما يعلم به مجيء الساعة عند نزوله. وقرأ ابن عباس {لَعَلَمٌ} بفتح اللام، أي: وإن نزوله لَعَلَم للساعة، أو: وإن وجوده بغير أب، وإحياءه للموتى، دليل على صحة البعث، الذي هو معظم ما ينكرة الكفرة.
وفي الحديث: إن عيسى عليه السلام ينزل على ثنية بالأرض المقدسة، يقال لها: أَفِيق، وهي عقبة بيت المقدس، وعليه مُمَصَّرتان، وشعر رأسه دهين، وبيده حربة يقتل بها الدجال، فيأتي بيت المقدس، والناس في صلاة العصر، والإمام يؤم بهم، فيتأخر الإمام، فيقدمه عيسى، ويصلي خلفه على شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ويقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويخرب البيعَ والكنائس، ويقتل النصارى إلا مَن آمن به وبمحمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: الضمير للقرآن؛ لأن فيه الإعلام بالساعة، {فلا تمْتَرُنَّ بها}؛ فلا تشكنَّ فيها، من المرْية، وهو الشك، {واتبعونِ} أي: اتبعوا هداي وشرائعي، أو: رسولي: وقيل: هو قول نبينا صلى الله عليه وسلم مأموراً به من جهته تعالى: {هذا} أي: الذي أدعوكم إليه {صراط مستقيم}؛ موصل إلى الحق. {ولا يَصُدَّنكم الشيطانُ} عن اتباعي {إِنه لكم عدو مبينٌ}؛ بيِّن العداوة، حيث أخرج آباكم من الجنة، وعرضكم للبلية.
الإشارة: الوعظ والتذكير لا تسري أنواره في القلوب إلا مع التسليم والتصديق، والسكوت والاستماع، كما كان الصحابة رضي الله عنهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم كأنَّ على رؤوسهم الطير، وأما إن دخل معه الجدال واللجاج ذهبت بركته، ولم تسْر أنواره، ولذلك قيل: مذهب الصوفية مبني على التسليم والتصديق، ومذهب الفقهاء مبني على البحث والتفتيش، لكن مع الإنصار، وخفض الصوت، وحسن السؤال من غير ملاججة ولا غضب.


يقول الحق جلّ جلاله: {ولما جاء عيسى بالبينات}؛ بالمعجزات؛ أو: بآيات الإنجيل؛ أو: بالشرائع الواضحات {قال} لبني إسرائيل: {قد جئتكم بالحكمة}؛ بالشريعة، أو: بالإنجيل المشتمل عليها {ولأُبَينَ لكم بعضَ الذي تختلفون فيه} وهو ما يتعلق بأمور الدين، وأما ما يتعلق بأمور الدنيا فليس بيانه من وظائف الأنبياء عليهم السلام كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنتم أعلمُ بدُنياكم»، وهو عطف على مقدّر، ينبئ عنه المجيء بالحكمة، كأنه قيل: جئتكم بالحكمة لأعلمكم إياها، ولأُبيّن لكم ما تختلفون فيه، {فاتقوا الله} في مخالفتي {وأطيعونِ} فيم أُبلغكم عن الله تعالى: {إِن الله هو ربي وربُّكم فاعبدوه} بيان لما أمرهم به من الطاعة، وهو اعتقاد التوحيد، والتعبُّد بالشرائع، {هذا صراطٌ مستقيمٌ} لا يضل سالكه؛ فهذا تمام كلام عيسى عليه السلام، وقيل: قوله: {هذا...} إلخ من كلام الله تعالى، مُقرر لمقالة عيسى عليه السلام.
{فاختلف الأحزابُ} أي: الفرق المتحزِّبة بعد عيسى، وهم: اليعقوبية والنسطورية، والملكانية، والشمعونية، {من بينهم} أي: من بين النصارى، أو: من بين مَن بُعِثَ إليهم من اليهود والنصارى، أي: اختلافاً ناشئاً من بينهم، من غير حجة ولا برهان، {فَويلٌ للذين ظلموا} من المختلفين، حيث قالوا في عيسى ما كفروا به، {من عذاب يومٍ أليم} وهو يوم القيامة {هل ينظرون} أي: ما ينتظر أولئك الكفرة، أو قوم عيسى {إِلا الساعة أن تأتيهم}: بدل من {الساعة} أي: هل ينتظرون إلا إتيان الساعة {بغتةً}؛ فجأة {وهم لا يشعرون} غافلون عن الاستعداد لها، لاشتغالهم بأمر دنياهم، أو: منكرون لها، غير مترقبيبن وقوعها.
الإشارة: كانت الرسل- عليهم السلام- يُبينون لأممهم ما يقع فيه الاختلاف من أمر الدين، سواء تعلّق ذلك بالظاهر أو بالباطن، بما يوحى إليهم من إلهام، أو بملَك مرسل، فلما ماتوا بقي خلفاؤهم من العلماء والأولياء، فالعلماء يُبينون ما اختُلِف فيه من الشرائع والعقائد، بما عندهم من القواعد والبراهين، والأولياء يُبينون الحقائق، وما يتعلق بالقلوب من الشكوك والخواطر، وسائر الأمراض، بما عندهم من الأذواق والكشوفات. فالعلماء يرجعون إلى كتبهم وعلومهم، والأولياء يرجعون إلى قلوبهم وأذواقهم، حتى كان فيما سلف من العلماء إذا توقفوا في مسألة عقلية أو قلبية أخذوا صوفيّاً أُميّاً فيسألونه، ويجبرونه على الجواب، فيجيبهم عن كل ما يسألونه، كقصة أبي الحسن النوري مع القاضي، وغيره، وقد كان الشعراني يسأل شيخه الخواص- وهو أُمي- عن أمر معضلة، فيجيب عنها، حتى إن كتبه كلها مطرزة بكلامه رضي الله عنهم أجمعين.


يقول الحق جلّ جلاله: {الأخلاءُ يومئذ بعضُهُم لبعضٍ عدو} أي: المتحابون في الدنيا على الأمور الذميمة متعادون يوم القيامة، يبغض بعضهم بعضاً، فتنقطع في ذلك اليوم كل خُلة كانت لغير الله، وتنقلب عدواة ومقتاً؛ لانقطاع سببها، وهو الاجتماع على الهوى، {إِلا المتقين} أي: الأخلّة المصادقين في الله، فإنها الخُلة الباقية؛ لأن خُلتهم في الدنيا لمَّا كانت لله، وفي الله، بقيت على حالها؛ لأن ما ان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، بل تزداد خُلتهم بمشاهدة كل واحد منهم بركة خُلتهم من الثواب، ورفع الدرجات. وسُئل صلى الله عليه وسلم: مَن أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون؟ فقال: «المتحابون في الله»، وخرَّج البزار عن ابن عباس رضي الله عنه قيل: يا رسول الله! أَيُّ جُلَسَائِنا خيرٌ؟ قال: «مَن ذكَّرَكُم بالله رؤيتُه، وزاد في عَمَلِكم مَنطِقُه؛ وذكَّركُمْ بالله عِلمُه».
ومن كلام الشيخ أبي مدين رضي الله عنه: دليل تخليطك صحبتك للمخلطين، ودليل انقطاعك إلى الله صحبتك للمنقطعين. اهـ. في سماع العتبية: قال مالك: لا تصحبْ فاجراً لئلا تتعلَّم من فجور، قال ابن رُشد: لا ينبغي أن يُصحب إلا مَن يُقتدى به في دينه وخيره؛ لأن قرين السوء يُردي، قال الحكيم:
عَن المرْءِ لا تَسْأَلْ وسَلْ عن قَرِينه *** فَكُلُّ قَرِينِ بالمُقارِنِ مُقْتَد
وفي الحديث: «المَرْءُ على دينِ خَليله» وسيأتي، في الإشارة بقية الكلام على المتحابين في الله.
ويقال لهم حينئذ، تشريفاً لهم، وتطييباً لقلوبهم: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون}، ثم وصفهم أو مدحهم بقوله: {الذين آمنوا بآياتنا}؛ صدّقوا بآياتنا التنزيلية، {وكانوا مسلمين}؛ منقادين لأحكامنا، مخلصين وجوههم لنا، وعن مقاتل: «إذا بعث الناس، فزع كل أحد، فينادي منادٍ: {يا عبادي لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون} فيرجوها الناس كلهم، فيتعبها الذين آمنوا بآياتنا وكانوا مسلمين، فيُنكِّس أهل الأديان الباطلة رؤوسَهم».
ثم يقول لهم: {ادخلوا الجنةَ أنتم وأزواجُكم}؛ نساؤكم المؤمنات {تُحْبرون}؛ تُسرّون سروراً يظهر حُباره- أي: أثره- على وجوهكم أو: تُزَينون، من: الحبرة وهو حسن الهيئة، أو: تُكرَمون إكراماً بليغاً، وتتنعمون بأنواع النعيم. والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل؛ وتقدّم في قوله: {فِى رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} [الروم: 15] أنه السماع. {يُطاف عليهم بصِحَافٍ من ذهب} أي: بعد دخولهم الجنة حسبنا أمروا به {وأكوابٍ} من ذهب؛ حذف لدلالة ما قبله. والصِحَاف: جمع صحفة، قيل: هي كالقصعة، وقيل: أعظم القصاع، فهي ثلاث: الجفنة، ثم القصعة، ثم الصحفة، والأكواب: جمع كوب، وهو كوز مستدير لا عروة له.
وفي حديث أبي هريرة، عنه صلى الله عليه وسلم قال: «أدنى أهْلُ الجنةِ مَن له سَبْعُ درجاتٍ، هو على السادسة، وفوقه السابعة، وإنّ له ثَلاَثَمائةِ خادمٍ، ويُغدى عليه ويُراح بثلاثمائة صَحفةٍ من ذَهبٍ، في كلِّ صَحْفَةٍ لونٌ ليس في الأُخرى مِثْلُه، وإنه لَيَلَدُّ آخِرُه كما يَلَدُّ أَوله، ويقول: لَوْ أَذِنْتَ لي يا رب لأطْعَمْتُ أهلَ الجنةِ، وأسقيتهم، ولا ينقص مما عندي شيء، وإنَّ لَه من الحور العِين لاثنين وسبعين زوجة، سوى أزواجه في الدنيا، وإن الواحدة منهن ليأخذَ مِقعدُها قَدرَ ميل» وفي حديث عكرمة: «إن أدنى أهل الجنة منزلةً مَن يُفسح له في بصره مسيرة مائة عام، في قصور من ذهب، وخيام من لؤلؤٍ، وليس منها موضع شبر إلا معمور، يُغدى عليه ويُراح بسبعين ألف صحفة من ذهب، ليس فيها صحفة إلا وفيها لون ليس في الأخرى مثله، شهوته في آخرها كشهوته في أولها، ولو نزل به جميع أهل الدنيا لوسع عليهم مما أعطى، ولا ينقص ذلك ما اُوتي شيئاً» ويجمع بينهما بتعدُّد اهل هذه المنزلة، وتفاوتهم.
{وفيها} أي: في الجنة {ما تشتهيه الأنفسُ} من فنون الملاذ. ومَن قرأ بحذف الهاء؛ فلطول الموصول بالفعل والفاعل. {وتلذُّ الأعينُ} أي: تستلذه، وتقر بمشاهدته، وهذا حصر لأنواع النعيم؛ لأنها إما مشتهيات في القلوب، أو مستلذات في العيون، ففي الجنة كل ما يشتهي العبد من الملابس والمناكح والمراكب.
رُوي أن رجلاً قال: يا رسول الله، إني أُحبُّ الخيلَ، فهل في الجنة خيلٌ؟ فقال: «إنْ يُدْخلك اللّهُ الجنةَ فلا تشاء أن تركبَ فرساً من ياقُوتَةٍ حمراء، يَطيرُ بكَ في الجنة حيث شئت، إلا فعلت، قال أعرابي: يا رسول الله، إني أحبُّ الإبلَ، فهل في الجنة إبل؟ فقال: يا أعرابي، إن يُدْخلك الله الجنة ففيها ما اشتهيت نفسك ولذَت عيناك». اهـ. وقال أبو طيبة السلمي: إن الشرذمة من أهل الجنة لتظلهم سحابة، فتقول: ما أُمْطِرْكُم؟ فما يدعو داع من القوم بشيء إلا أَمطرَتْه، حتى إن الرجل منهم يقول: أمطر علينا كواعب أتراباً. وقال أبو أُمامة: إن الرجل من أهل الجنة ليشتهي الطائر وهو يطير، فيقع نضيجاً في كفه كما أراد، فيأكل منه حتى تشتهي نفسه، ثم يطير كان أول مرة، ويشتهي الشراب، فيقع الإبريق في يده، فيشرب منه ما يريد، ثم يُرفع الإبريق إلى مكانه. اهـ. من الثعلبي.
قال القشيري: وفيها ما تشتهيه الأنفس للعُبَّاد؛ لأنهم قاسوا في الدنيا- بحكم المجاهدات- الجوعَ والعطشَ، وتحمّلوا وجوهَ المشاقِّ، فيجزون في الجنة وجوهاً من الثواب، وأما أهل المعرفة والمحبُّون فلهم ما تلذّ أعينهم من النظر إلى الله، لطول ما قاسوه من فَرْطِ الاشتياق بقلوبهم، وما عالجوه من احتراقهم فيه لشدة غليلهم. اهـ. والحاصل: أن ما تشتهي الأنفس يرجع لنعيم الأشباح، وتلذ الأعين لنعيم الأرواح من النظر، والقُرب، والمناجاة والمكالمة، والرضوان الأكبر، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر.
{وأنتم فيها خالدون} إتمام للنعمة، وكمال للسرور؛ فإن كل نعيم له زواله مكدر بخوف زواله لا محالة.
{وتلك الجنة}؛ مبتدأ وخبر، و {التي أُورثتموها}: صفة الجنة، أو: {الجنة} صفة المبتدأ، الذي هو الإشارة، و {التي أورثتموها}: خبره. أو: {التي أورثتموها} صفة المبتدأ، و{بما كنتم تعملون}: خبر، أي: حاصلة، أو كائنة بما كنتم تعملون في الدنيا، شبه جزاء العمل بالميراث؛ لبقائه على أهله دائماً، ولا ينافي هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «لَن يُدخِل أحدَكُم الجنةَ عملُه»؛ لأن نفس الدخول بالرحمة، والتنعُّم والدرجات بقدر العمل، أو: تقول: الحديث خرج مخرج الحقيقة، والآية خرجت مخرج الشريعة، فالحقيقة تنفي العمل عن العبد، وتُثبته لله، والشريعة تُثبته له باعتبار الكسب، والدين كله وارد بين حقيقة وشريعة؛ فإذا شرع القرآن حققته السُّنة، وإذا شرعت السنة حققه القرآن. والله تعالى أعلم.
{لكم فيها فاكهةُ كثيرة} بحسب الأنواع والأصناف، لا بحسب الأفراد فقط، {منها تأكلون} أي: لا تأكلون إلا بعضها، وأعقابها باقية في أشجارها على الدوام، لا ترى فيها شجراً خلت عن ثمرها لحظة، فهي مزيّنة بالثمار أبداً، موقورة بها، وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا ينزع رجل في الجنة من ثمرها إلا نبت في مكانها مثلاها».
الإشارة: كل خُلة وصحبة تنقطع يوم القيامة، إلاَّ خُلة المتحابين في الله، وهم الذين ورد في الحديث: أنهم يكونون في ظل العرش، والناس في حر الشمس، يغشى نورُهم الناسَ في المحشر، يغبطهم النبيون والشهداء لمنزلتهم عند الله. قيل: يا رسول الله، مَن هؤلاءِ؟ صفهم لنا لنعرفهم، قال: «رجالٌ من قبائلَ شتى، يجتمعون على ذكر الله».
وقد ورد فيهم أحاديث، منها: حديث الموطأ، عن معاذ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: قال الله تعالى: «وَجَبَتْ محَبتِّي للمُتَحَابِّين فِيَّ، والمُتَجالِسينَ فيّ، والمُتبَاذِلينَ فِيّ، والمُتَزَاوِرينَ فِيّ»، وفي رواية أبي مُسلم الخولاني: قال صلى الله عليه وسلم: «المتحابُّون في الله على مَنَابرَ من نورٍ، في ظِلِّ العرشِ، يوم لا ظِلَّ إِلا ظِلُّه»، وفي حديث آخر: «ما تحابّ اثنان في الله إلا وُضِعَ لهما كُرسِيّاً، فيجلِسَانِ عليه حتى يَفْرغَ من الحساب» وقال صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُتَحَابِّين في الله لَتَرى غُرفَهُم في الجنة كالكوكب الطَّالِعِ الشَّرقِي أو الغربي، فيقال: مَن هؤلاء؟ فيقال: هؤلاء المُتَحَابُّونَ في الله عزّ وجل».
وفي رواية: «إنّ في الجنة غُرَفاً يُرى ظواهِرُها مِن بَوَاطِنِها، وبَواطِنُها من ظَواهرها، أعدَّها الله للمُتحابِّين في الله، والمُتَزَاورِينَ فيه، والمُتباذِلين فيه»
وفي لفظ آخر: «إنَّ في الجنة لعُمُداً من ياقوتٍ، عليها غُرَفٌ من زَبَرْجد، لها أبواب مُفَتَّحَةٌ؛ تُضيء كما يُضيء الكوكب الدُّرِّي، قلنا: يا رسول الله، مَن يَسْكُنُها؟ قال: المتحابُّون في الله، والمتباذِلُون في الله، والمتلاقون في الله، مكتوب على وجوههم، هؤلاء المتحابون في الله» وفي الأثر أيضاً: إذا كان يوم القيامة: نادى منادٍ: أين المتحابون في الله؟ فيقوم ناس- وهم يسير- فَيَنْطَلِقُون إلى الجَنَّ سِرَاعاً، فَتَتَلقَّاهم الملائكة: فيقولون: رأيناكم سِراعاً إلى الجنة، فمَن أنتم؟ فيقولون: نحن المتَحَابُّون في الله؛ فيقولون: وما كان تحابُّكُم؟ فيقولون: كنَّا نتحاب في الله؛ ونتزاورُ في الله، ونتعاطف في الله، ونتباذل في الله، فيُقال لهم: ادخلوا الجنة، فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين. اهـ. من البدور السافرة. والتباذل: المواساة بالبذل.
وذكر في الإحياء شروط المتحابين في الله، فقال رضي الله عنه: اعلم أن عقد الأخوة رابطة بين الشخصين، كعقد النكاح بين الزوجين، ثم قال: فَلأخيك عليك حق في المال، وفي النفس، وفي اللسان، وفي القلب. وبالعقو، وبالدعاء، وذلك تجمعه ثمانية حقوق.
الحق الأول: في المال بالمواساة، وذلك على ثلاثة مراتب؛ أدناها: أن تُنزله منزلة عبدك وخادمك، فتقوم بحاجاته بفضله مالك، فإذا سنحت له حاجة، وعندك فضلة أعطيته ابتداءً، فإذا أحوجته إلى سؤال فهو غاية التقصير. الثانية: أن تنزله منزلة نفسك، وترضى بمشاركته إياك في مالك، فتسمح له في مشاركته. الثالثة- وهي العليا-: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وهي رتبة الصدّيقين، ومنتهى درجات المتحابين.
الحق الثاني: الإعانة بالنفس في قضاء الحاجات، والقيام بها قبل السؤال، وهذا أيضاً لها درجات كالمواساة، فأدناها: القيام بالحاجة عند السؤال، ولكن مع البشاشة والاستبشار، وإظهار الفرح. وأوسطها: أن تجعل حاجته كحاجتك، فتكون متفقداً لحاجته، غير غافل عن أحواله، كما لا تغفل عن أحوال نفسك، وتغنيه عن السؤال. وأعلاها: أن تؤثره على نفسك، وتقدم حاجته على حاجتك، وتؤثره على نفسك، وأقاربك، وأولادك. كان الحسن يقول: إخواننا أحبُّ إلينا من أهلينا وأولادنا؛ لأن أهلينا يذكروننا الدنيا، وإخواننا يذكروننا في الآخرة.
الحق الثالث: على اللسان بالسكوت، فيسكت عن التجسُّس، والسؤال عن أحواله، وإذا رآه في طرقه فلا يسأله عن غرضه وحاجته، فربما يثقل عليه، أو يحتاج إلى أن يكذب، ويسكت عن أسراره التي بثها إليه، فلا يبثها إلى غيره، ولا إلى أخص أصدقائه، ولا يكشف شيئاً منها ولو بعد القطيعة، وليسكن عن مماراته ومدافعته في كلامه.
الحق الرابع: على اللسان بالنطق، فيتودد إليه بلسانه، ويتفقده في أحواله، كالسؤال عن عارض عرض له، وأظهر شغل القلب بسببه، فينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها. والأحوال التي يُسِرُّ بها، ينبغي أن يظهر له بلسانه كراهتها.
والأحوال التي يُسِرُّ بها، ينبغي أن يظهر له بلسانه مشاركته في السرور بها. فمعنى الأخوة: المساهمة في السراء والضراء، ويدعوه بأحب أسمائه في حضوره ومغيبه، ويُثني عليه بما يعرف من محاسن أحواله، عند مَن يريد هو الثناء عنده، وكذا على أولاده وأهله، حتى على عقله، وخُلُقه، وهيئته، وخطه، وشعره، وتصنيفه، وجميع ما يفرح به، من غير كذب ولا إفراط، ويذب عنه في غيبته مهما قُصد بسوء، ويُعلمه مما علّمه الله وينصحه.
الحق الخامس: العفو عن الزلاّت والهفوات، فإن كان زلته في الدين؛ بارتكاب معصية، فليتلطّف في نصحه، فإن بقي مُصرّاً، فقد اختلف الصحابة في ذلك، فذهب أبو ذر إلى مقاطعته، وقال: إذا انقلب أخوك عما كان عليه فأبغضه من حيث أحببته. وذهب أبو الدرداء، وجماعة، إلى خلاف ذلك، وقال أبو الدرداء: إذا تغيّر أخوك عما كان عليه فلا تدعه لأجل ذلك؛ فإن أخاك يُعوجُّ مرة، ويستقيم أخرى. وهذا ألطف وأفقه، وذلك لما في هذه الطريق من الرفق، والاستمالة، والتعطُّف، المفضي إلى الرجوع والتوبة. وأيضاً: للأخوة عقد، ينزل منزلة القرابة، فإذا انقعدت وجب الوفاء بها، ومن الوفاء: ألا يهمله أيام حاجته وفقره، وفقر الدين أشد من فقر المال. ثم قال: والفاجر إذا صَحِبَ تقيّاً وهو ينظر إلى خوفه رجع عن قريب، ويتخلّى من الإصرار، بل الكسلان يصحب الحريص في العمل، فيحرص، حياءً منه، وإن كانت زلته في حقك فلا خلاف أن العفو والاحتمال هو المطلوب. اهـ. قلت: ولعل حق القلب يندرج هنا مع المحبة وشهود الصفاء منه.
الحق السادس: الدعاء له في حياته ومماته بكل ما يُحب لنفسه وأهله. قلت: ومن ذلك زيارة قبره، وإيصال النفع له في ذلك الوقت.
الحق السابع: الوفاء والإخلاص. ومعنى الوفاء: الثبات على الحب، وإدامته إلى الممات، معه ومع أولاده وأصدقائه.
الحق الثامن: التخفيف وترك التكليف والتكلُّف، فلا تُكلف أخاك ما يشق عليه؛ بل تُرَوح سره عن مهماتك وحاجاتك، وترفهُه عن أن تحمّله شيئاً من أعبائك، ولا تكلفه التواضع لك، والتفقُّد والقيام بحقوقك، بل ما تقصد بمحبته إلا الله تعالى. اهـ. باختصار.
وفي وصية القطب ابن مشيش، لأبي الحسن رضي الله عنهما: لا تصحب مَن يُؤثر نفسه عليك، فإنه لئيم؛ ولا مَن يُؤثرك على نفسه، فإنه قلما يدوم؛ واصحب مَن إذا ذكر ذكر الله، فالله يغني به إذا شهد، وينوب عنه إذا فُقِدْ، ذكره نور القلوب، ومشاهدته مفاتح الغيوب. ومعنى كلام الشيخ: لا تصحب مَن يبخل عنك بما عنده من العلوم، ولا مَن يتكلّف لك، فإنه لا يدوم، وهذه صحبة الشيخوخة.
وقال صلى الله عليه وسلم: «مَثَلُ الأَخَوَيْنِ كَمَثَلِ اليَدَيْنِ، يَغْسِلُ إِحداهُما الأُخرى، وكَمَثَلِ البُنْيَان يَشُدُّ بَعْضُه بعضاً» وفي معناه قيل:
إِنَّ أخَاكَ الحقَّ مَن كَانَ مَعَك *** وَمَن يَضُرُّ نَفْسَه لِيَنْفَعَك
وَمَنْ إِذا رَأَى زَمَاناً صَدَّعَكَ *** شَتَّتَ فِيكَ شَمْلَهُ لِيَجْمَعَك
وهذا في حق الإخوان، والله تعالى أعلم.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6